هل ضرب الأسد قلب باريس بقوة؟
السبت, 10 يناير 2015 01:03

altإسماعيل القاسمي الحسني  

قراءتان تناولتا الجريمة المدانة التي وقعت بحق صحفيي شارلي ايبدومنذ يومين، والى غاية كتابة هذه السطور مازال حبر الكتاب والخبراء يتدفق نحوقراءة واحدة أعطيت المساحة الأكبر، وهي بكل بساطة إرهابيان من التيار السلفي الجهادي،

قام بالانتقام من صحيفة دأبت على الإساءة لمقدسات الإسلام، تحت مسمى حرية التعبير. وتحرص القراءة على وصف العنصرين بالفرنسيين من أصول جزائرية.  

والحقيقة أني عند مراجعة الشريط الذي تم بثه عبر الفضائيات، والمعلومات الأولية التي تدفقت عبر مواقع أهم الصحف الفرنسية التي كنت أتابعها ساعات بعيد الجريمة، أسئلة كثيرة فرضت نفسها لتفسير بعض التفاصيل، التي يتعذر على أي منصف تجاوزها، خاصة عندما استقبلت الشريط كاملا، والذي لاحظت قص بعض المشاهد فيما تم بثه، منها وجود عدة أشخاص على سطح البناية ومنهم من يرتدي سترات واقية، ومنها وجود أشخاص في الشارع ببزة شرطية تم حذفه كذلك؛ فضلا عن تساؤلات كثير من الخبراء حول إمكانية تمتع عناصر إرهابية بتلكم الكفاءة العالية، سواء من الجانب المعلوماتي فيما تعلق بالاجتماع الأسبوعي لادارة التحرير وتوقيته، أوالجانب العملياتي الذي وفق الرواية أنه لم يزد عن خمس دقائق لتنفيذ أخطر وأعقد عملية تصفية جسدية في قلب باريس، داخل إدارة يفترض أنها تحت الحماية الأمنية المشددة والمركزة لطبيعتها المعروفة، لكن تفاجئنا مع هذا المشهد الذي تجاوز بدقته ومهنيته قدرات الاستخبارات الفرنسية، جزئية صادمة تتمثل في تعرف المصالح المعنية عن الجناة، بسبب لا يرقى بأي حال من الأحوال لما سبق وصفه، وهونسيان بطاقة التعريف لأحدهم في السيارة التي عثر عليها، هكذا بكل بساطة وعفوية.

  ليلة الحادثة تلقيت رسالة كتبها أحد أبرز عناصر جهاز الاستخبارات الجزائرية، يقدم فيها قراءة استخباراتية ميدانية وتاريخية حول الجريمة، وملخصها أن ما جرى لا يعدوكونه عملية عالية الكفاءة، قام بها عناصر من المجموعات المسلحة كانوا قد اعدوا لها خصيصا في هذه المرحلة – فرنسا تقر بتدريبها وتسليحها للمجموعات الإرهابية- ويؤكد هنا أن لكل الدول الأوروبية الفاعلة في القضية السورية، علاقة استخباراتية مع المجموعات المسلحة تتفاوت درجاتها ومدى فاعليتها وفق المصالح المشتركة؛ لكن الأخطر أن دولا أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا (وهنا لا نتحدث عن تركيا والسعودية وقطر) سعت لاختراق المجموعات المسلحة، بتكوين وحدات من المرتزقة عناصرها من المغتربين طبعا، تم تدريبها تدريبا عاليا على العمليات القتالية، تضطلع بمهمات استثنائية؛ ويرى رجل المخابرات الجزائرية أن ما وقع لشارلي ايبدومن المؤكد أنها إحدى أهم هذه العمليات.

ويفسر ذلك بانكشاف عجز القيادة الفرنسية في الحرب التي شنتها على الرئيس بشار الأسد، وباتت مساءلتها عن الحماقة التي ارتكبتها قاب قوسين، مما يعيد فتح ملف ليبيا التي تحترق، ويسقط هيبة الدولة الفرنسية وكل شعاراتها (الزائفة) ليس أمام الرأي العام الفرنسي بل العالمي كذلك، فقد تطوع ساستها ساركوزي والآن هولاند على وضعها كرأس حربة للإطاحة بالرئيس السوري، فضلا عن تردي الأوضاع المعيشية والانكماش الاقتصادي وغيرها من عوامل، جميعها تحفز الشارع الفرنسي على الانتفاض، وفرض إعادة النظر حيال سياسة فرنسا في العالم العربي وعلى وجه الخصوص الشرق الأوسط؛ تنفيذ عملية شارلي ايبدوجاء في الوقت المناسب تماما، ليس فقط لصرف نظر الرأي العام عن فشل السياسة الفرنسية، بل فرصة ثانية لامساك مقود القيادة وإدارته وفق إرادة الطبقة الحاكمة، نحوعدوبات حاضرا فعليا في قلب باريس. ويبدوأن كل وسائل الإعلام الغربية قد مضت في الشحن نحوهذا الاتجاه فعلا.  

ثقافتي المتواضعة تقول: جرائم بهذا الحجم وتترك وراءها أسئلة ملحة لا تجد لها جوابا، حتما تكون من صنيعة أجهزة المخابرات، من كيندي الى الحريري وإلى اليوم وغدا، لأن وبكل البساطة الأجوبة لدى الأجهزة التي لن تكشف عنها، ولا أستبعد قراءة صديقنا من المخابرات الجزائرية لأسباب عديدة يأتي على رأسها ما نشرته صحيفة “لوكنار اونشينيه” الفرنسية، والمقربة جدا للأجهزة الأمنية، حول حادثة التشابك بالأيدي والضرب بين السفير الفرنسي السابق بدمشق، ورئيس ديوان وزير الخارجية بحضور مدير العلاقات بالعالم العربي ومندوب جهاز المخابرات، وكان سبب الاشتباك موقف السفير الذي مما نسب له في هذه الواقعة قوله: بما أنني سفير فرنسا في دمشق، فأنا أعرف بواقع الحال، والسياسة الفرنسية تجاهها (العدائية طبعا) لن تطيح أبدا بالأسد، وإنما ستضطركم للاطاحة بفرنسا نفسها. فرد عليه رئيس الديوان بوصفه باللفظ كما ورد في الصحيفة بالأحمق (connard) ما أشعل فتيل الاشتباك بالأيدي.  

كتبت هنا في صحيفة “رأي اليوم” من قبل، أني التقيت شخصية سورية رفيعة استقبلت موفد جهاز الاستخبارات الفرنسية، وذكرت حينها بعض التفاصيل حول اللقاء، وهوما أكدته صحيفة “لوموند” الفرنسية الشهيرة، في مقال تحليلي ثلاثة أيام بعد نشر مقالنا، والمهم هنا أن من بين ما جاء أونسب لرأس جهاز المخابرات الفرنسية، ما معناه أن القيادة السياسية ورطت فرنسا في موقف بالغ الخطر حيال سورية، وأنهم مجرد أغبياء (القيادة السياسية الفرنسية) لا يحسنون قراءة الواقع فضلا عن المستقبل، والمصيبة أنهم لا محالة سيغادرون يوما مناصبهم، ويتركون البلد في وضع بالغ التعقيد، هذا الكلام وغيره يتطابق تماما مع ما نشره تقرير صحيفة “لوكنار اونشنيه”.  

الى غاية كتابة هذه السطور مازالت المتهمون أحياء، لكن غالب الظن أنها ستتم تصفيتهم مثل محمد مراح لتبقى كل علامات الاستفهام معلقة الى أجل غير مسمى، وتستثمر القيادة الفرنسية هذه الجريمة البشعة وفق ما باتت تراه ضرورة ملحة لمراجعة مواقفها، فضلا عن صرف نظر الرأي العام عن سوابق ساركوزي وهولاند بكل ما تحمله من خسائر تكبدتها فرنسا، نتيجة عمالة حمقاء وزعت بين واشنطن والدوحة كما جاء في كتاب “قطر الصديق الذي يريد بنا شرا” لمؤلفيه الصحفيين المحققين نيكولا بووجاك ماري.

  أيا تكن القراءتين أصح وأقرب للواقع، فالسؤال يفرض نفسه: هل ضرب الرئيس الأسد فرنسا في القلب؟ ولا مفر هنا من الإجابة بنعم، فإن كانت القراءة بأنها مجرد خلية إرهابية قامت بالانتقام لرسول الله (ص) كما يسوق الإعلام الغربي في مجمله، فما أقرت به صحيفة “لوبوان” الفرنسية أن أحد العنصرين عاد من سورية، وأن علاقة المجرمين عضوية بالجماعات المسلحة المدعومة فرنسيا رسميا، ويحضرني هنا قول لوران فابيوس في 12/2012: لقد أحسن الإسلاميون عملا في سورية؛ وردّت القيادة السورية حينها بالقول: إن هذه الجماعات التي تدعمون اليوم سترتد عليكم لا محالة غدا.

قرئ الجواب السوري على انه مجرد تهديد إنشائي لا يستحق لحظة تأمل، بعد أربع سنوات تعلن فرنسا على لسان رئيسها رسميا وكذلكم اليوم بريطانيا بأنهم يواجهون خطر الجماعات الجهادية في عقر ديارهم. وقلوب بعض السياسيين الفرنسيين على أيديهم لوثبت أن السلاح المستخدم في العملية، هونفسه الذي دعمت به فرنسا المجموعات المسلحة، كما ورد ذلك على صفحة “روسيا اليوم”؛هنا في هذا الموقف المزلزل نقول: نعم الرئيس السوري كان أبعد نظرا وأصدق قولا وأرجح عقلا.  

أما إن كانت قراءة المخابرات الجزائرية هي الواقعية، فيعني ذلك أن فرنسا فعلا أعلنت باللغة الأمنية عن هزيمتها أمام الرئيس بشار الأسد، وهوما بشرها بها سفيرها كما أسلفنا، واضطرت للتضحية ببعض أبنائها كانت قد استخدمتهم بدعم صهيوني ملموس ضد العالم الإسلامي، كقربان لقلب عجلة الاتجاه نحودمشق، خاصة وأن رئيس استخباراتها عاد الصيف الماضي منها بخفي حنين، بعد أن اشترط قصر “الروضة” التعامل وفق القوانين الدولية، ما يعني ضرورة فتح السفارة الفرنسية في دمشق أولا ثم عبرها يأتي التعاون الذي لا يحصر في المجال الأمني كشرط مسبق.

فاليوم وتحت وطأة أحداث الجريمة، يمكن للقيادة الفرنسية أن تعلن استعدادها رسميا للتعاون مع دمشق من أجل مصالحها، ستجد الرأي العام الداخلي مستعد لقبول ذلك بل وتشجيعه متى حفظ لهم فعلا أمنهم؛ صحيح أن القيادة الفرنسية تكون قد خرجت نسبيا من الورطة التي وقعت فيها منذ أربع سنوات، خاصة وهي ترى بعينيها الوفد الأمريكي يعود من دمشق بما لم يعد به وفدها، وترى أن دولا عربية مركزية ماضية لاستعادة علاقتها بدمشق؛ لكن الأصح كذلك أن الرئيس الأسد قد أصاب حين قال عن فرنسا وعن كل من قطع علاقته بسورية: دعوهم يذهبون فقريبا سيعودون. وهذه كذلك إصابة مباشرة في قلب الدبلوماسية الفرنسية.  

طيب الله أوقاتكم

  فلاح جزائري

نقلا عن رأي اليوم

فيديو 28 نوفمبر

البحث