زمن الحضيض
الثلاثاء, 24 نوفمبر 2015 11:36

الحضيض هي الكلمة الملائمة لوصف حالة المشرق العربي، اجتماع ضادين في كلمة واحدة في لغتنا التي اصطلح الأقدمون على إطلاق اسم لغة الضاد عليها، يوحي بضجيج الانهيار، اجتمعت الضادان لتعبرا عن القعر الذي لا قعر له.

 

 

لم يلتفت العرب القدماء إلى غنى هذه الكلمة وقدراتها التعبيرية الهائلة، ففي «لسان العرب» لا ترد الكلمة الا للإشارة إلى معناها المكاني: «والحضيض قرار الأرض عند سفح الجبل، وقيل هو في أسفله، والسفح من وراء الحضيض، فالحضيض مما يلي السفح والسفح دون ذلك». وعلى الرغم من أن كلمة حضيض تعني أيضاً دواء يتخذ من أبوال الإبل، لكننا لا نجد عند ابن منظور أو في القاموس المحيط أية اشارة الى أن الكلمة تحولت الى استعارة للانحطاط أو الانهيار.

التحول سوف يطرأ على دلالات الكلمة في لغتنا الحديثة، وللأسف فإننا لا نملك قاموساً للغتنا الأدبية يعيننا على اكتشاف لحظة تطور المعنى وأشكاله المتعددة. وفي انتظار ذلك فإننا لا نمتلك سوى ذاكرتنا الشخصية، وهي ذاكرة ناقصة وانتقائية ولا يمكن الوثوق بها.

شعوري بأن لا كلمة أكثر دقة في التعبير عن واقعنا العربي اليوم من كلمة حضيض، قادني إلى الرجوع إلى القواميس للبحث عن مصدر هذا الشعور فلم أجد شيئاً، وهذه علامة إيجابية تدلّ على أن وعينا لما نعيشه في هذا الزمن الحضيضي، استنبط كلمة جديدة، لعل في هذا مؤشراً على قدرتنا على النهوض من هذا الحضيض.

والحق أنني مدين شخصياً لسعدالله ونوس الذي أعاد تظهير هذه الكلمة بمعنى جديد، وذلك في مسرحيته «الاغتصاب». في هذه المسرحية ترد الكلمة على لسان البطل الإسرائيلي الذي تقوده ممارسة القمع والعنف ضد السجناء الفلسطينيين إلى التحول إلى عاجز جنسياً، ما يسمح لزميله في المخابرات باغتصاب زوجته. ونوس استخدم الكلمة في سياق بحثه عن لغة لشخصياته الإسرائيلية قائمة على التغريب، لكن مؤلف «حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران»، لم يعش كي يرى أن لغة الحضيض لم تعد لغة المستبد الإسرائيلي فقط، بل صار الحضيض سمة عامة لمنطقتنا، وصار الحضيض العربي هو الموضوع الأساسي في زمن صعود العنف الذي تجاوز في وحشيته المغول والافرنج والمماليك معاً.

أشعر أن اجتماع الضادين يحوّل الصوت الى ألم، كأن أحرف اللغة تتوجع، ولا تجد سوى الحشرجة كوسيلة للتعبير.

لم تعد اللغة تعبّر عن الألم بل صارت هي مصدر الألم، لذا بتنا في حاجة إلى وسيلة أخرى تعبّر عن ألم اللغة، وهذا ليس متوفراً.

عدم توفر هذه الوسيلة ليس تعبيراً عن عجز عربي فقط، فالعجز العربي لم يعد يحتاج إلى برهان، بل هو عجز شامل في العالم. اقرأوا ردود الفعل على عملية باريس الوحشية، وحاولوا التمعن في الكلام الذي قيل ويقال، لتكتشفوا معي أن الحضيض العربي ليس سوى مؤشر على حضيض عالمي يسوده فكر عنصري وأصولي، يعلن أن سمة الزمن النيوليبرالي السائد، هي الإيغال في التوحش.

نستطيع أن ننتقد الدول الغربية، ويجب نقدها، لكن المسألة اليوم تتعلق بمنطقتنا أولاً، فبلادنا هي ساحة الصراع بين الهمجيات المختلفة، وشعوب هذه المنطقة تعيش الذلّ والهوان، وتفتقد إلى اللغة الملائمة لوصف هذا الهوان تمهيدا للخروج منه.عجزنا عن الوصف يفسر عجزنا عن التغيير، من هنا فإن إعادة اكتشاف كلمة الحضيض، والانطلاق منها، قد يكون بداية الطريق الطويل نحو الخروج من هذا الحضيض!كيف نصف حضيضنا؟

هناك وصفتان جاهزتان، وكلاهما فقدتا القدرة على تفسير أي شيء. الأولى تقول إن المشكلة فينا وفي ثقافتنا وديننا، والثانية تقول إن المشكلة في الدول الاستعمارية التي تتآمر علينا، الوصفتان متداخلتان، الوصفة الأولى تبرر الاستعمار والوصفة الثانية تبرر التقوقع والاستبداد. والعاملان أي الاستعمار والاستبداد هما وجهان لعملة واحدة. والمسألة لا تتعلق فقط بممالك النفط والاستبداد، بل تشمل الجمهوريات الوراثية، انظروا ماذا فعل المستبد في سورية بالشعب السوري، وكيف صار بقاء نظامه رهينة التدخل العسكري الخارجي.

الحضيض ليس نتاج ثقافتنا بل هو نتاج الشرط السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي صنعه الاستبداد، وإذا كانت الثقافة مسؤولة عن هذا الحضيض فهي تتحمل المسؤولية من زاوية ان بعضها قبل الوصفة الأولى وسقط ضحية الاستسشراق، بينما قبل بعضها الآخر الوصفة الثانية وسقط ضحية الاستشراق المقلوب وبرر الاستبداد باسم الأصولية أو باسم محاربة هذه الأصولية.

الحضيض هو الاستبداد الذي حطّم المجتمع وتركه عارياً بلا مؤسسات، وحطّم الدولة محولا إياها الى عصابات للقتل والنهب، وروّض الثقافة والمثقفين بعدما قام بقمعهم وتشريدهم في المنافي.

مشكلتنا تكمن في «طبائع الاستبداد»، وحضيضنا هو الاستبدادات التي تنهشنا، وآخرها استبداد الدولة الإسلامية التي تعبئ الفراغ الروحي بالتوحش.

شيء يثير الأسى أن نعيش الحضيض. ولكن بدل أن يدفعنا هذا إلى الاستسلام له بصفته قدراً، علينا أن نبدأ بالاعتراف بمسؤوليتنا عن الخديعة التي كنا ضحاياها، وأن نبدأ بتفكيك الحضيض إلى عناصره المختلفة كي نكتشف علاقة الاستبداد بالانحطاط وعلاقة الأصولية التكفيرية بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية والروحية التي تعيشها مجتمعاتنا.

لا أحد يملك وصفة جاهزة للخروج من الحضيض، لكن من المؤكد أن لغة هستيريا محاربة الإرهاب في صيغتيها الفرنسية والروسية اللتين تستكملان الصيغة الأمريكية ليست جواباً. علينا ان نبدأ نقدا جديا للزمن النيوليبرالي الذي أطلق الفاشيات من عقالها كشرط للبحث عن جواب ضد الهمجيات العنصرية الزاحفة كي تخنق العالم بأسره.وهنا لا مبرر لهذا الغياب أو الغيبوبة التي تعيشها الثقافة العربية، فبعد الهزيمة الوحشية والسهلة لثورات نبيلة رفعت شعار الكرامة الإنسانية، وبعد تحول البلاد السورية الى ملعب لاختبار الأسلحة، ومختبر لإيصال الألم الانساني إلى ذروته، وبعد الحضيض الذي لا حضيض بعده، علينا أن ندرك أن لا أحد سيخرجنا من هذا الحضيض، وأن علينا أن نقاتل كشعوب خسرت كل شيء ولم يعد أمامها سوى أن تخسر قيودها.

الياس خوري

فيديو 28 نوفمبر

البحث