خواطر حول كتاب نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة
الجمعة, 25 يوليو 2014 12:29

في ليلة هادئة ، وأنا في طرف قصي من هذا الوطن الحبيب ، أخذني الفضول لمطالعة بعض المواقع الإلكترونية المحلية ، فإذا بخبر يبشر بصدور كتاب نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة للدكتور:

 الشيخ ولد سيد عبد الله الأديب الناقد ، والإعلامي المتميز ، فبادرت بالاتصال بالأخ والزميل مهنئا وشاكرا ، وطفقت أبحث عن سبيل سريعة تضمن وصول الكتاب إلي ، وأنا الذي لا يفصلني عن الحدود المالية غير واد كركور الذي يحمل دلالة البعد الجغرافي والثقافي في الذاكرة المحلية .وفي ليال دون أصابع اليد كان لي ما أردت ، حيث بدأت رحلتي مع الكتاب.

من المفيد هنا أن أبادر بالقول دون مجاملة ولا محاباة ودون جري على عادة الموريتانيين في تزكيتهم لكل أثر أدبي اطلعوا عليه ، فلست من المعجبين  بثقافة هز الرؤوس وعادة الاستحسان المطلق ، إن رحتلي مع كتاب نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة كانت مفيدة وممتعة ، فهي مفيدة لأنها وضعت بين يدي كنوزا متنوعة من الأدب الشنقيطي ، لم يكن من السهل ولا من المعتاد جمعها ونفض غبار الزمن عنها في كتاب متداول جيد الإحكام وقوي السبك ، وهي ممتعة لأنني عشت لحظاتها الأبدية دون أن أشعر بأحكام غير معللة ولا آراء متعصبة ، ولا غارات نقدية تسرق بضاعة الآخرين وتسوقها وفقا لهواياتهم ، وإنما أخذني أسلوب فني رائع قد ارتوى نبع قلم صاحبه من زلال الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة ، وتشبع عقله بمناهج البحث الأدبي المعاصر ، فجاءت رؤاه النقدية متكاملة ، وثقافته الموسوعية مفهرسة ، فقد أبى أن تستزله ثقافته الأدبية المعاصرة وتكوينه النظامي المتمكن عن الغوص في أعماق الثقافة الشنقيطية القديمة ، وتوجيه بوصلته نحو مراكز الإشعاع ومواطن الإنتاج الأدبي ، فجال بين حواضر البلد العتيقة والمعاصرة حتى جمع مادته وحقق مناطها ، وعندئذ سلط عليها من فيض قريحته وخالص معارفه أضواء نقدية كاشفة ، لا شرقية ولا غربية ، وإنما تقوم على التفسير الواقعي للأثر الأدبي تحليلا واستنتاجا ، فجاء الكتاب قبسا مضيئا ، ومصباحا منيرا لغرفة النقد الشنقيطي التي كادت جحافل الظلام المستمرة عبر الزمن أن تنسي الناس أنها غرفة ظليلة ودافئة ، لذلك أجدني هنا مرتاحا وغير محرج حين أطلق على كتاب نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة اسم "الكتاب" تبركا بالكتاب واقتداء بالسلف ، فقد أطلق الله سبحانه وتعالى على القرآن الكتاب ﴿ألم ذلك الكتاب﴾ وأطلق السلف على كتاب سيبويه في النحو اسم "الكتاب" ، وها أنذا أطلق في مجال النقد على هذا المؤلف اسم "الكتاب" فلا يتبادر إلى الذهن في سياق النقد غيره .

إلا أنه لما كان من مبادئ العقيدة الإسلامية أن القرآن ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ كان أيضا من السنن الكونية أن أي عمل بشري لا يمكن أن يكون خاليا من النقص والخطأ ، خاصة إذا كان هذا العمل في سياق ما بات يعرف بالعلوم الإنسانية التي تند عن القياس والتحجيم ، وتهرب من التقعيد والتحديد لأن أحكامها فنية تصدر غالبا عن الذوق والاجتهاد ، لذلك رأيت أنه من الضروري قبل انتهاء هذه الخاطرة أن أسجل ملاحظاتي حول هذا الكتاب.

أولا: حول تصنيف المقرر الأدبي للمحظرة الشنقيطية

فقد اعتبر الدكتور أن الشناقطة كانوا يدرسون المعلقات ودواوين الشعراء الستة الجاهليين ، ولامية العرب ... بدافع خدمة الذوق الأدبي ، والواقع أنهم إنما كانوا يدرسون هذه المدونة الأدبية بدافع اكتشاف المفردات اللغوية وفهم معاني الكلمات التي تشكل بنية الخطاب الشعري ، ولذلك كانت شروحهم وحواشيهم وطررهم على هذه المدونة تنصب في هذا الاتجاه .

أما تذوق هذه النصوص والاطلاع على جمالياتها الشعرية والأدبية فهو من نصيب مرحلة لاحقة في رحلة تكوين الإنسان الشنقيطي الطويلة ، ذلك أن مرحلة التذوق واكتشاف مواطن الجمال الأدبي لا تكون عادة من نصيب المراحل الأولى من تكوين الطالب المحظري .

ثانيا: حول علم العروض ومكانته عند الشناقطة

فقد أورد الدكتور في سياق حديثه عن مكانة العروض ومؤلفاته الأولى في المجال الشنقيطي ما نصه: "هو ـ يعني محمد محمود ولد عبد الفتاح ـ أول من أوصل علم العروض إلى الكبله ، وهو أول من ألف في "لبتوته" وما يقابلها من أوزان استجابة لرغبة شيخه سيد محمد بن الشيخ سيديا عندما سأله عن الأوزان" [الصفحة35].

ولنا على هذه الفقرة ملاحظات:

1.  أن هذه الفقرة تضمنت حكمين وسببا ما كان للباحث المتبصر أن يكتفي في حقهما بالعزو فقط لعقود الجمان دون أن يبحث عن أدلة مؤيدة أو معارضة ، لأن مسألة تحديد من أدخل علما معينا وهاما من علوم العربية هو بحد ذاته تأصيل أكاديمي يستحق من الناقد أكثر من الاستشهاد بفقرة من كتاب مرقون.

2.  أن هذه الفقرة طرحت إشكالية العلاقة بين الأوزان الشعرية والحسانية على مستوى التأليف و التنظير بعد أن كانت على مستوى المحاكاة والتقليد عند اليدالي ، وهي مسألة محورية من صميم النقد الأدبي ما كان ينبغي أن يفوت الدكتور فرصة بحثها على القراء بعثا مفيدا وممتعا ـ كما عودنا ـ ، ولما لم يكن ذلك اعتبرنا أن في الأمر شيئا من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو غير مرغوب عند أهل البلاغة والأصول.

3.  أن هذه الفقرة تضمنت ما نصه: "استجابة لرغبة شيخه" وهو كلام لا يستقيم على الإطلاق لأن العلامة محمد محمود ولد عبد الفتاح لم يكن ولد الشيخ سيديا شيخا له في العلم ولا في التصوف ، وإنما كان الأخير تلميذا نجيبا لولد (الداه) والأمر محل إجماع ، هذا على تقدير سلامة الفقرة ، أما في حالة اعتبار أن الفقرة الصحيحة هي استجابة لرغبة ابن شيخه وأن كلمة ابن قد سقطت خطئا من المتن ، فذلك محل نظر لأن هناك من يقول إن العلامة ولد عبد الفتاح قد جدد في التصوف خاصة على الشيخ سيديا بدافع الأدب معه ، وبذلك يكون قول المؤلف ابن شيخه إشارة إلى ذلك ، ومن تتبع الأشعار التي أنشدها ابن الشيخ سيديا إشادة بشيخه ولد الداه عرف ذلك حق معرفته .

4.  إهمال الدكتور لذكر كتاب العلامة محمد محمود ولد عبد الفتاح (تهذيب المسائل الخوافي من علم العروض وعلم القوافي) وهو كتاب موجود ومعروف قام بتحقيقه الأستاذ: عبد الفتاح ولد سيدن في المعهد العالي 1986 – 1987 ، والغريب أن الباحث يقول أن ولد الداه هو أول من أوصل علم العروض إلى الكبله ، وأنه مهتم بالتأليف في العروض دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن هذا الكتاب في المكتبات العامة أو الخاصة عند ذوي المؤلف أو محيطه القريب ، خاصة أنه في سياق الحديث عن مكانة العروض في الثقافة الشنقيطية .

5.  حجم الهامش الذي خصصه الدكتور للعلامة ولد الداه ، حيث لم يبلغ هذا الهامش سطرين ، والأغرب من ذلك أن هذين السطرين خليا تماما من ذكر أحد أبرز مؤلفات العلامة في البلاغة ـ وهي إحدى ركائز النقد ـ أعني نظمه المشهور: (عقد الجواهر الحسان في المعاني والبديع والبيان) الذي كان موضوع دراستين في نفس الجامعة التي تلقى فيها الدكتور تكوينه الجامعي الأول ، فقد كان من الجدير به أن يذكر هذا النظم الجزيل المحقق خلال السنة الدراسية: 1991- 1992م في كلية الآداب من طرف الأستاذ عبد الله ولد الشيخ ، قبل أن يلتفت مشكورا في الصفحة 304 عند الحديث عن مؤلفات البلاغة إلى ذكر طرف من اسم هذا النظم (الجواهر الحسان) محالا إلى معجم المؤلفات الموريتانية المخطوطة وليست المحققة .

ثالثا: حول الخصومة النقدية بين ولد الشيخ سيديا وولد محمدي

ذهب الدكتور إلى أن النقد الذي وجهه ابن محمدي إلى ابن الشيخ سيديا قد أشعل فتيل المناقضة بين الشاعرين فقال: "وقد شكل هذا النقد الجذوة التي أشعلت فتيل المناقضة المعروفة بين الشاعرين" [ص114] معتبرا ما حصل نقدا اشتعلت جذوة فتيل مناقضته بين الشاعرين ، غير أن ذلك لم يكن ليدفعه إلى إيراد هذا الشعر أو مناسبته ، أو أمثلة منه أو طرف من مواقف الناس حوله ، فضلا عن القيام بواسطة نقدية منصفة على غرار ما فعله الآمدي ، ولعمري إنكم لقادرون على ذلك ، وجديرون بإحياء تلك السنة النقدية التليدة ، والغريب عندي أنكم بذلتم  جهودا بحثية نادرة ، وقمتم بحفريات استقصائية شاملة ، كلفتكم الغوص في حقول نائية ووعرة بحثا عن نماذج شعرية مهاجرة ، واقتفاء لآثار نقدية هزيلة وشاردة ، في الوقت الذي تركتم فيه دررا شعرية نفيسة ومواقف نقدية رائعة في مهب الرياح.

فالمساحة التي شغلها نقد البيضاوي والقباج على أهميته وطرافته وخدمته التنويعية للنقد الشنقيطي ، وما له من قيمة تاريخية تستحق الخصومة النقدية السابقة مساحة مثلها ، وسيحيي بحثها من السنن الأدبية والظواهر الشعرية والمتعة الفنية والمواقف الأخلاقية ما هو أكثر فائدة وأعمق أثرا ، وأبعد خدمة للنقد و فنونه من ترهات نظمية لا يحسن أصحابها غير ثقافة الزحافات والعلل ، وقد استغرقني الفكر واستبدت بي الحيرة حين أيقنت أن تعليقكم على هذه المناقضة ليس أكثر من الفقرة المذكورة ، وما دام الأمر كذلك فلماذا تذكرون النقد والاشتعال والمناقضة ، وكأن القضية خارجة عن مجال بحثكم الزمني وحدوده الجغرافية ، أم أن شعر الرجلين ومناقضتهما لا يحملان من القيم الفنية والمثل الأخلاقية ما يستحقان به وقفة نقدية في كتاب نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة ، وأيا ما يكن سبب إهمالكم لهذه الخصومة النقدية الشنقيطية وما لها من تداعيات أدبية وروحية تثري العمل النقدي وتصل خيط النوازع الإنسانية بالأدب عبر الزمن ، فإن المعول عليه هو تيقظكم للطاقات الكامنة واللامتناهية التي يشتمل عليها الأدب الشنقيطي المطمور .

رابعا: حول النص الشعري وفنية توظيفيه

يتكل الدكتور كثيرا على ثقافة قراء كتابه ، فيعتبر في أحيان كثيرة أنهم على نفس المستوى المعرفي الذي يتمتع به ، فلا يضيء من النصوص التي يوردها إلا حسبما يفهم منه قصده ، وهو الذي يعايش هذه النصوص ويدرك مقاصد أصحابها دون النظر إلى تفاوت واهتمام وتخصص قرائه ، وهذا ما دفع به إلى إيراد طائفة كبيرة ومتنوعة من الأشعار غطت في مجملها حياة أمة عبر قرون من الزمن دون أن يصحبها بتحليلات جوهرية تميز خصوصية كل نص وتبرز خلفية كل شاعر ، بل يكتفى بإيراد الظاهرة النقدية إيرادا مقتضبا ، ثم يلتمس المثال الشعري عليها ، وما يكاد المثال ينتهي حتى يشرع في ظاهرة أخرى باستثناء عينية ابن الشيخ سيديا التي قصدها قصدا ، فقد خصها بوابل من فيض عطائه أحيا أرضها و أخرج نباتها ، وليته فعل مثل ذلك مع نصوص أخرى لم يستجلب لها من خيله ورجله إلا القدر الذي يضمن انسجامها في السياق ، وما كان لناقد عتيد لبس لامة حربه أن تأخذه رأفة في دين نقده ، ومتطلبات فنه.

وفي الأخير لا يسعني إلا أن أعترف مرة أخرى بأن الكتاب كنز شنقيطي من الظلم أن يروم فك كنوزه متطفل على مائدة النقد الأدبي يعيش خارج دائرة الحدث ، ولكن طالما استهوى بغاث النقاد تتبع الطلقات الطائشة لصقوره .

الأستاذ: سيد محمد ولد الطلبه

ولد ينج بتاريخ: 15/05/2014

هاتف: 22.12.92.98

فيديو 28 نوفمبر

البحث